فصل: *فيه مسائل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


قوله في حديث أنس‏:‏ ‏(‏لا عدوى، ولا طيرة‏)‏‏.‏ تقدم الكلام على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويعجبني الفأل‏)‏‏.‏ أي‏:‏ يسرني، والفأل بينه بقوله‏:‏ ‏(‏الكلمة الطيبة‏)‏‏.‏ فـ ‏(‏الكلمة الطيبة‏)‏ تعجبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضي قدمًا لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان؛ لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقدامًا وإقبالًا‏.‏

وظاهر الحديث‏:‏ الكلمة الطيبة في كل شيء؛ لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سببًا لخيرات كثيرة، حتى إنها تُدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة‏.‏

وهذا الحديث جمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه بين محذورين ومرغوب؛ فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حُسن تعليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوبًا، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عقبة بن عامر‏)‏‏.‏ صوابه عن عروة بن عامر؛ كما ذكره في ‏(‏التيسير‏)‏، وقد اختلف في نسبه وصحبته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذكرت الطيرة عند رسول الله‏)‏‏.‏ وهذا الذكر إما ذكر شأنها، أوذكر أن الناس يفعلونها، والمراد‏:‏ تحدث الناس بها عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

ولأبي داود ـ بسند صحيح ـ عن عقبة بن عامر؛ قل‏:‏ ذكرت الطيرة عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال‏:‏ ‏(‏أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره؛ فليقل‏:‏ اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏ ‏[‏أبو داود ‏(‏كتاب الطب، باب في الطيرة‏)‏، والبيهقي في ‏(‏السنن‏)‏ ‏(‏8/139‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحسنها الفأل‏)‏‏.‏ سبق أن الفأل ليس من الطيرة ‏[‏أبو داود ‏(‏كتاب الطب، باب في الطيرة‏)‏، والبيهقي في ‏(‏السنن‏)‏ ‏(‏8/139‏)‏‏.‏

قال النووي في ‏(‏رياض الصالحين‏)‏ ‏(‏ص 620‏)‏‏:‏ ‏(‏رواه أبو داود بإسناد صحيح‏)‏‏.‏‏]‏، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام؛ فإنه يزيد الإنسان نشاطًا وإقدامًا فيما توجه إليه؛ فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا؛ فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتًا ونشاطًا؛ فالشبه بينهما هوالتأثير في كل منهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا ترد مسلمًا‏)‏‏.‏ يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته؛ فليس بمسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا رأى أحدكم ما يكره‏)‏‏.‏ فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريدن ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دواء لذلك وقال‏:‏ ‏(‏فليق‏:‏ اللهم لا يأتيي بالحسنات ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت‏)‏ ‏.‏ وهذا هوحقيقة التوكل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اللهم‏)‏‏.‏ يعني‏:‏ يا الله، ولهذا بُنيت على الضم؛ لأن المنادي علم، بل هوأعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركًا بالابتداء باسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ وصارت ميمًا؛ لأنها تدل الجمع؛ فكأن الداعي جمع قلبه على الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يأتي بالحسنات إلا أنت‏)‏‏.‏ أي‏:‏ لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب خلقها الله؛ صار الموجد حقيقة هوالله‏.‏

والمراد بالحسنات‏:‏ ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه‏.‏

ويشمل ذلك الحسنات الشرعية؛ كالصلاة والزكاة وغيرها؛ لأنها تسر المؤمن، ويشمل الحسنات الدنيوية؛ كالمال والولد ونحوها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏50‏]‏، وقال تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ من الآية120‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إلا أنت‏)‏‏.‏ فاعل يأتي؛ لأن الاستثناء هنا مفرغ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يدفع السيئات إلا أنت‏)‏‏.‏ السيئات‏:‏ ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالًا أومآلًا، ولا يدفعها إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وشاهدوا الغرق؛ دعوا الله مخلصين له الدين‏.‏

ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب؛ فمثلًا لورأى رجلًا غريقًا، فأنقذه؛ فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولوشاء الله لم ينقذه؛ فالسبب من الله‏.‏

فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا لله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وبمقتضى هذه العقيدة؛ فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات ويسألون دفع السيئات، قال تعالى عن زكريا‏:‏ ‏{‏رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ من الآية38‏]‏، وقال تعالى عن أيوب‏:‏ ‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏83‏]‏، وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏.‏ في معناها وجهان‏:‏

الأول‏:‏ أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله؛ فالباء بمعنى في، يعني‏:‏ إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة؛ لأن غير الله فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة؛ فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله؛ فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها؛ إذ إننا لا نتحول من حال إلى حال، ولا نقوى على ذلك إلا بالله؛ فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول والقوة‏.‏

فإن صح الحديث؛ فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول‏:‏ ‏(‏اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏.‏

* * *

وعن ابن مسعود مرفوعا‏:‏ ‏(‏الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل‏)‏ ‏[‏أبو داود ‏(‏كتاب الطب، باب في الطيرة‏)‏، والبيهقي في ‏(‏السنن‏)‏ ‏(‏8/139‏)‏‏.‏

قال النووي في ‏(‏رياض الصالحين‏)‏ ‏(‏ص 620‏)‏‏:‏ ‏(‏رواه أبو داود بإسناد صحيح‏)‏‏.‏‏]‏ رواه أبوداود والترمذي وصححه‏.‏ جعل آخره من قول ابن مسعود‏.‏

ـ

قوله‏:‏ ‏(‏مرفوعا‏)‏‏.‏ أي‏:‏ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الطيرة شرك، الطيرة شرك‏)‏‏.‏ هاتان الجملتان يؤكد بعضهما بعضا من باب التوكيد اللفظي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏شرك‏)‏‏.‏ أي‏:‏ إنها من أنواع الشرك، وليست الشرك كله، وإلا؛ لقال‏:‏ الطيرة شرك‏.‏

وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج من الملة، أوأنها نوع من أنواع الشرك‏؟‏

نقول‏:‏ هي نوع من أنواع الشرك؛ كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏اثنتان في الناس هما بهم كفر‏)‏ ‏[‏كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب‏.‏‏]‏؛ أي‏:‏ ليس الكفر المخرج عن الملة، وإلا، لقال‏:‏ ‏(‏هما بهم الكفر‏)‏، بل هما نوعان من الكفر‏.‏

لكن في ترك الصلاة قال‏:‏ ‏(‏بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة‏)‏ ‏[‏أخرجه مسلم ‏(‏كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة‏)‏‏.‏‏]‏، فقال‏:‏ ‏(‏الكفر‏)‏؛ فيجب أن نعرف الفرق بين ‏(‏أل‏)‏ المعرفة أو الدالة على الاستغراق، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل‏:‏ هذا كفر؛ فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل‏:‏ هذا الكفر؛ فهوالمخرج من الملة‏.‏

فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه؛ فإنه لا يعد مشركا شركا يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سببا، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركا من هذه الناحية، والقاعدة‏:‏ ‏(‏إن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سببا؛ فإنه مشركا شركا أصغر‏)‏‏.‏

وهذا نوع من الإشراك مع الله؛ إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعيا، وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونيا، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله؛ فهومشركا شركا أكبر؛ لأنه جعل لله شريكا في الخلق والإيجاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما منا‏)‏‏.‏ ‏(‏منا‏)‏‏:‏ جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، إما قبل ‏(‏إلا‏)‏ إن قدرت ما بعد إلا فعلا؛ أي‏:‏ وما منا إلا تطير، أو بعد ‏(‏إلا‏)‏؛ أي‏:‏ وما منا إلا متطير‏.‏

والمعنى‏:‏ ما منا إنسان يسلم من التطير؛ فالإنسان يسمع شيئا فيتشاءم، أو يبدأ في فعل؛ فيجد أوله ليس بالسهل فيتشاءم ويتركه‏.‏

والتوكل‏:‏ صدق الاعتماد على الله في حلب النافع ودفع المضار مع الثقة بالله، وفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابا‏.‏

فلا يكفي صدق الاعتماد فقط، بل لابد أن تثق به؛ لأنه سبحانه يقول‏:‏ ‏(‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏)‏‏!‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجعل آخره من قول ابن مسعود‏)‏‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏(‏وما منا إلا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ وعلى هذا يكون موقوفا، وهو مدرج في الحديث، والمدرج‏:‏ أن يدخل أحد الرواة كلاما في الحديث من عنده بدون بيان، ويكون في الإسناد والمتن، ولكن أكثره في المتن، وقد يكون في أول الحديث، وقد يكون في وسطه، وقد يكون في آخره، وهو الأكثر‏.‏

مثال ما كان في أول الحديث‏:‏ قول أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الوضوء / باب غسل الأعقاب، ومسلم‏:‏ كتاب الطهارة / باب وجوب غسل الرجلين‏.‏‏]‏؛ فقوله‏:‏ ‏(‏أسبغوا الوضوء‏)‏ من كلام أبي هريرة، وقوله‏:‏ ‏(‏ويل للأعقاب من النار‏)‏ من كلام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

ومثال ما كان في وسطه قول الزهري في حديث بدء الوحي‏:‏ ‏(‏كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتحنث في غار حراء، والتحنث‏:‏ التعبد‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب بدء الوحي / باب كيف بدء الوحي، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم‏.‏‏]‏، ومثال ما كان في آخره‏:‏ هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، وكذا حديث أبي هريرة، وفيه‏:‏ ‏(‏فمن استطاع منكم أن يطيل غرته؛ فليفعل‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الوضوء / باب فضل الوضوء، ومسلم‏:‏ كتاب الطهارة/ باب استحباب إطالة الغرة‏.‏‏]‏؛ فهذا من كلام أبي هريرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ردته الطيرة عن حاجته‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏‏.‏ شرطية، وجواب الشرط‏:‏ ‏(‏فقد أشرك‏)‏، واقترن الجواب بالفاء؛ لأنه لا يصلح لمباشرة الأداة، وحينئذ يجب اقترانه بالفاء، وقد جمع ذلك في بيت شعر معروف، وهو قوله‏:‏

ولأحمد من حديث ابن عمرو‏:‏ ‏(‏من ردته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فما كفارة ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تقولوا‏:‏ اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك‏)‏ ‏[‏الإمام أحمد في ‏(‏المسند‏)‏ ‏(‏2/220‏)‏‏]‏‏.‏

اسمية طلبية وبجامد ** وبما وقد وبلن وبالتنفيس

وقوله‏:‏ ‏(‏عن حاجته‏)‏‏.‏ الحاجة‏:‏ كل ما يحتاجه الإنسان بما تتعلق به الكمالات، وقد تطلق على الأمور الضرورية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقد أشرك‏)‏‏.‏ أي‏:‏ شركا أكبر إن اعتقد أن هذا المتشاءم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سببا فقط فهو أصغر؛ لأنه سبق أن ذكرنا قاعدة مفيدة في هذا الباب، وهي‏:‏ ‏(‏إن كل من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كونا ولا شرعا؛ فشركه شرك أصغر؛ لأنه ليس لنا أن يثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سببا كونيا أو شرعيا؛ فالشرعي‏:‏ كالقراءة والدعاء، والكوني‏:‏ كالأدوية التي جرب نفعها‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما كفارة ذلك‏)‏‏.‏ أي‏:‏ ما كفارة هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك‏؟‏ لأن الكفارة قد تطلق على كفارة الشيء بعد فعله، وقد تطلق على الكفارة قبل الفعل، وذلك لأن الاشتقاق مأخوذ من الكفر، وهو الستر، والستر واق؛ فكفارة ذلك إن وقع وكفارة ذلك إن لم يقع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك‏)‏‏.‏ يعني‏:‏ فأنت الذي بيدك الخير المباشر؛ كالمطر والنبات، وغير المباشر؛ كالذي يكون سببه من عند الله على يد مخلوق، مثل‏:‏ أن يعطيك إنسان درهم صدقة أو هداية، وما أشبه ذلك؛ فهذا الخير من الله، لكن بواسطة جعلها الله سببا، وإلا فكل الخير من الله ـ عز وجل ـ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فلا خير إلا خيرك‏)‏‏.‏ هذا الحصر حقيقي؛ فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا طير إلا طيرك‏)‏‏.‏ أي‏:‏ الطيور كلها ملكك؛ فهي لا تفعل شيئا، وإنما هي مسخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَو السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏79‏]‏؛ فالمهم أن الطير مسخرة بإذن الله؛ فالله تعالى هو الذي يدبرها ويصرفها ويسخرها تذهب يمينا وشمالا، ولا علاقة لها بالحوادث‏.‏

ويحتمل أن المراد بالطير هنا ما يتشاءم به الإنسان؛ فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم والحوادث المكروهة؛ فإنه من الله كما أن الخير من الله؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنما طائرهم عند الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏31‏]‏‏.‏

لكن سبق لنا أن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير؛ إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي تجعله خيرا‏.‏

فيكون قوله‏:‏ ‏(‏لا طير إلا طيرك‏)‏ مقابلا لقوله‏:‏ ‏(‏ولا خير إلا خيرك‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا إله غيرك‏)‏‏.‏ ‏(‏لا‏)‏ نافية للجنس، و‏(‏إله‏)‏ بمعنى‏:‏ مألوه؛ كغراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه‏:‏ هوالمعبود محبة وتعظيما يتأله إليه الإنسان محبة له وتعظيما له‏.‏

وله من حديث الفضل بن عباس‏:‏ ‏(‏إنما الطيرة ما أمضاك أوردك‏)‏ ‏[‏الإمام أحمد في ‏(‏المسند‏)‏، وقال الشيخ حفظه الله‏:‏ ‏(‏في سنده مقال‏)‏ ‏(‏ص580‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن هناك آلهة دون الله؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ من الآية101‏]‏‏.‏

أجيب‏:‏ أنها وإن عبدت من دون الله وسميت آلهة؛ فليست آلهة حقا لأنها لا تستحق أن تعبد؛ فلهذا نقول‏:‏ لا إله إلا الله؛ أي‏:‏ حق لا إله إلا الله‏.‏

*يستفاد من الحديث‏:‏

1-أنه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته، وإنما يتوكل على الله ولا يبالي بما رأى أوسمع أوحدث له عند مباشرته للفعل أول مرة؛ فإن بعض الناس إذا حصل له ما يكره في أول مباشرته الفعل تشاءم، وهذا خطأ؛ لأنه ما دامت هناك مصلحة دنيوية أودينية؛ فلا تهتم بما حدث‏.‏

2- أن الطيرة نوع من الشرك؛ لقوله‏:‏ ‏(‏من ردته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك‏)‏‏.‏

3-أن من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة؛ فإن ذلك لا يضر كما سبق في حديث ابن مسعود‏:‏ ‏(‏وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل‏)‏ ‏[‏تقدم ‏(‏ص89‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏ 4- أن الأمور بيد الله خيرها وشرها‏.‏

5-انفراد الله بالألوهية؛ كما انفرد بالخلق والتدبير‏.‏

وحصرا؛ أي‏:‏ ما الطيرة إلا ما أمضاك أوردك لا ما حدث في قلبك ولم تلتفت إليه، ولا ريب أن السلامة منها حتى في تفكير الإنسان خير بلا شك، لكن إذا وقعت في القلب ولم ترده ولم يلتفت لها؛ فإنها لا تضره، لكن عليه أن لا يستسلم، بل يدافع؛ إذ الأمر كله بيد الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أمضاك أوردك‏)‏‏.‏ أما ‏(‏ما ردك‏)‏؛ فلا شك أنه من الطيرة؛ لأن التطير يوجب الترك والتراجع‏.‏

وأما ‏(‏ما أمضاك‏)‏؛ فلا يخلومن لأمرين‏:‏

الأول‏:‏ أن تكون من جنس التطير، وذلك بأن يستدل لنجاحه أوعدم نجاحه بالتطير، كما لوقال‏:‏ سأزجر هذا الطير، فإذا ذهب إلى اليمين؛ فمعنى ذلك اليمن والبركة، فيقدم؛ فهذا لاشك أنه تطير؛ لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح؛ لأنه لا وجه له؛ إذ الطير إذا طار؛ فإنه يذهب إلى الذي يرى أنه وجهته، فإذا اعتمد عليه؛ فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سببا، وهو حركة الطير‏.‏

الثني‏:‏ أن يكون سبب المضي كلاما سمعه أو شيئا شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له؛ فإن هذا فأل، وهو الذي يعجب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن إن اعتمد عليه وكان سببا لإقدامه؛ فهذا حكمه الطيرة، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطا في طلبه؛ فهذا من الفأل المحمود‏.‏

والحديث في سنده مقال، لكن على تقدير صحته هذا حكمه‏.‏

* * *

*فيه مسائل

الأولي‏:‏ التنبيه على قوله‏:‏ ‏{‏ألا إنما طائرهم عند الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏، مع قوله‏:‏ ‏{‏طائركم معكم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 19‏]‏ الثانية‏:‏ نفي العدوى‏.‏ الثالثة‏:‏ نفي الطيرة‏.‏ الرابعة‏:‏ نفي الهامة‏.‏ الخامسة‏:‏ نفي الصفر‏.‏ السادسة‏:‏ أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب‏.‏